أحداث الخبز 1984: انتفاضة كسرت حاجز الخوف من الشارع في نفوس التونسيين
tunigate post cover
ثقافة

أحداث الخبز 1984: انتفاضة كسرت حاجز الخوف من الشارع في نفوس التونسيين

أحداث مثلت منطلقا للحراك الاجتماعي والانتفاضات الشعبية في تونس ... كيف جعلت ثورة الخبز في تونس من شهر يناير مرجعية رمزية للغضب وماهي العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت في اشتعالها
2022-01-03 20:20

وجدي بن مسعود


“إن العيون التي تطيل النظر في الحرائق لا تدمع”، لعل كلمات الشاعر التركي ناظم حكمت تلخص بنظر البعض هذا التناسي والتغييب الذي تقابل به ذكرى “أحداث الخبز” سنة 1984 في تونس.

 فلعل تتابع الانتفاضات الاجتماعية والغضب الشعبي وحراك أحزمة الفقر بالمدن الكبرى والمناطق المنسية بالداخل على مدار السنوات الماضية، أهال جبالا كثيفة من الغبار على الذاكرة الجمعية للتونسيين، وجعل من ذكرى أول انتفاضة للشعب التونسي منذ الاستقلال مجرد تفصيل تاريخي، وسط زخم الاحتجاجات والتحركات والانتفاضات المرتبطة بالوضع الاجتماعي والواقع الاقتصادي والتي باتت تنفجر ما بين شهري ديسمبر/كانون الأول وجانفي/يناير   محولة شتاء تونس وشوارعها إلى موجة من نار الثورة ولهيبها.

رمزية شهر يناير

لا تقتصر أهمية أحداث جانفي /يناير1984 على خلفيتها الاجتماعية، والآثار التي ترتبت عنها على المستوى والسياسي فحسب باعتبارها القشة التي سرعت في نهاية حقبة الوزير الأول الراحل محمد مزالي وطموحاته السياسية لخلافة بورقيبة، بل تعتبر مفتاحا أساسيا لتحليل تاريخية الحراك الاجتماعي في تونس والعوامل التي أثرت في مساره.

ويشير باحثون وأكاديميون في السياق ذاته إلى تأثيرات مهمة فكرية ونفسية رسختها “أحداث الخبز” ليس أقلها دلالة تاريخ شهر جانفي/يناير. فالتاريخ والتوقيت اللذان جذرهما هذا الحدث المحوري في التاريخ الوطني المعاصر سيشكلان المنطلق الرمزي في مختلف المحطات الاحتجاجية الكبرى في الشارع ليصبح هذا الشهر عنوانا لـ”شتاء تونس الساخن”.

جاءت انتفاضة الخبز بعد سنوات من أحداث الخميس الأسود سنة 1978 وما أعقبها من قمع للحركة النقابية، والذي لم تتعاف من آثاره لفترة طويلة فكانت بمثابة الحدث القادح الذي أعاد حشد الشارع وتعبئته، مظهرا قدرته على التنظم العفوي والارتجالي عبر قيادات ميدانية في غياب قوة مركزية تدفع الحراك الاجتماعي وتقوده.

السياسات الاقتصادية والهوة الطبقية

 فضلا عن الأسباب المباشرة، كانت لثورة الخبز في تونس أسباب عميقة وكان العامل الاقتصادي أخطرها وأكثرها تأثيرا نتيجة سياسات الانفتاح التي انتهجها الرئيس بورقيبة، وخلفت واقعا طبقيا مخيفا في المجتمع التونسي جاعلة الأثرياء يزدادون ثراء بفضل ما حصلوا عليه من دعم سخي وقروض وتسهيلات من الدولة للاستثمار وإقامة المشاريع في القطاع الخاص، على حساب ملايين من الطبقة العاملة والكادحة والمسحوقة التي لم تبرح واقعها الرديء منذ حقبة الوزير الأول الهادي نويرة.

ومنذ وصول محمد مزالي إلى القصبة بدا واضحا أن هذا الخلل الاجتماعي والطبقي المستمر في التعمق يهدد السلم الاجتماعي والداخلي، ويحمل نذر “ثورة للجياع”، وهو ما دفع مزالي إلى محاولة تقديم بعض المكاسب إلى الطبقات العاملة والموظفين من خلال إقرار زيادة مهمة في الأجور بلغت حينها عشرين دينارا حتى ذاعت وقتها عبارة “كارطة تحك في الكارطة”، بالعامية التونسية التي تعني “ورقة نقدية فوق الأخرى”، عبارة أطلقها الوزير الأول الراحل عند حديثه عن الزيادة في الأجور بهدف شراء سلم أهلي زائف وترقيع هوة اجتماعية وطبقية آخذة في الاتساع.

وإلى جانب العامل الاقتصادي، لعب الصراع السياسي بين أجنحة الحكم دورا فاعلا، في ظل شيخوخة بورقيبة وترهل سطوته وتحول الحكم إلى مشروع غنيمة بين عدد من كبار رموز نظامه، وهو ما ساهم في تهيئة الأرضية وإشعال الشرارة الأولى للانتفاضة التي قدر لها أن تغير وجه تونس.

في مذكراته “نصيب من الحقيقة” تحدث مزالي بإسهاب عما أسماه بـ”مؤامرة الخبز”، والتي جاءت حسب روايته نتيجة مخطط من الجناح المناهض له داخل الحكم بقيادة وزير الداخلية الأسبق إدريس قيقة والماجدة وسيلة زوجة الزعيم بورقيبة.

التحقيق التلفزي وصراع أجنحة السلطة

حسب رواية مزالي فقد وجهت الماجدة بإيعاز من إدريس قيقة تعليمات إلى مسؤولي التلفزة بإعداد روبورتاج عن إهدار الخبز بكميات كبيرة يبث في النشرة الرئيسية للأخبار التي يحرص بورقيبة على متابعتها.

كان لمشاهد التقرير وأرقامه المفزعة أثر على الرئيس العجوز الذي أعاد مجددا طرح قضية رفع الدعم عن الخبز ومشتقات القمح الصلب عموما، والذي كان مثار نقاشات طويلة داخل الحكومة بهدف السيطرة على العجز المتنامي لصندوق التعويض الذي أصبح يستهلك لوحده 10 بالمائة من إجمالي ميزانية الدولة.

وبلا دراسات مسبقة أصر بورقيبة على مضاعفة ثمن الخبز من 80 إلى 170 مليما، وترك لوزيره الأول عبء إعداد متطلبات القرار والإعلان عنه في أواخر ديسمبر/كانون الأول 1983، في فرصة كان الجناح المقابل يتهيأ لها منتظرا غضبا شعبيا يطيح بمزالي من سدة الوزارة.

الأحداث تتسارع

بدأت شرارة الأحداث الأولى في مدينة دوز التابعة لولاية قبلي في 29 ديسمبر/كانون الأول 1983 في شكل مظاهرات أسفرت عن مواجهات بين المتظاهرين والشرطة، وتمددت معها شرارة الحريق لتعم مختلف مناطق الجنوب التونسي، وتشمل مدينة قابس وقفصة ومدنين وسرعان ما انتقلت إلى جبنيانة وصفاقس ومن ثم إلى مناطق الوسط الغربي والشمال.

بلغت الاحتجاجات أوجها يوم 3 جانفي/ يناير 1984 مع وصولها إلى العاصمة، وأصبحت المواجهة مفتوحة بين المحتجين ورصاص الأمن، ومع تزايد عدد الضحايا تم إعلان حالة الطوارئ في كامل أنحاء البلاد، إلا أن ذلك لم يكبح طوفان الغضب ولم يمنع المواطنين من النزول إلى الشوارع، ما أدى بالنهاية إلى دفع قوات الجيش إلى النزول لاستعادة السيطرة على الأوضاع.

“تكلم بورقيبة فعاد الوعي” و “قائد الشعب يحمي خبزة الشعب”، بمثل هذه العناوين اختزلت الصحافة التونسية كلمة الرئيس التونسي الأسبق الذي كان محورها الأساسي “نرجعوا وين كنا” أي أن نعيد سعر خبز الأول، وهكذا بجرة قلم أو بمجرد خطاب متلفز موجز مسحت دماء أكثر من  90 شخصا راحوا ضحية الرصاص خلال الأحداث، ولفها النسيان في غمار الفرح الشعبي بعودة الخبز إلى تسعيرته الأولى، وحفظ بورقيبة مكانته الاعتبارية لدى الشارع الذي كان يهتف ضد حكمه وسياسات الوزير الأول.

يقول المؤرخون إن تجربة جانفي/يناير 1984 كانت نواة الثورة التي اختمرت لاحقا عبر عدة محطات تاريخية ونضالية شعبية، فرغم أنها وُئدت بمجرد خطاب من المجاهد الأكبر، إلا تأثيرها الاجتماعي والتاريخي كان عميقأ حيث كسرت عدة حواجز نفسية ومعنوية لدى جموع التونسيين الذين جسدوا لحظتها شعار “لا خوف بعد اليوم”.

أحداث الخبز#
الحبيب بورقيبة#
الحراك الاحتجاجي والانتفاضات الشعبية#
محمد مزالي#

عناوين أخرى