ثقافة

أبو لبابة الأنصاري: الصحابي الذي شهدت سارية المسجد النبوي توبته

يقف مقام الصحابي الجليل أبي لبابة الأنصاري، أو “سيدي بولبابة” كما يعرف بين العامة، من فوق ربوة مطلّة على مدينة قابس جنوبي تونس، مجلّلا المكان بفيض من الروحانية والخشوع، حتى بات من موقعه الشامخ أشبه بسلطان المدينة وحاميها من الكوارث والغزاة على مر الزمن مسبغا بركاته على أهلها وزوارها منذ ما يزيد عن 13 قرنا.

تتنوّع الحكايات والروايات الشعبية والشفهية التي تناولت سيرة هذا الصحابي والمجاهد، والتي يختلط بين تفاصيلها التاريخ بالخرافة والأسطورة، حتى أنّ بعضها خلعت عليه صفة “حلاق النبي الأكرم”، رغم عدم ثبوت أيّ تدوينات أو إثباتات تاريخية تؤكّد هذا الأمر.

أنصاري من الأوس

لكن الثابت -وفق أغلب المؤرّخين- أنّ أبا لبابة يعدّ من بين صفوة المجاهدين من الأنصار الذين شاركوا رسول الله أولى غزواته، كما كان من بين لفيف من المؤمنين الذين استخلفهم النبي في المدينة عندما خرج إلى غزوة بدر.

هو بشير بن عبدالمنذر بن عوف بن عمرو، وأمّه نسيبة بنت زيد بن ضبيعة، نشأ وجيها في قومه في المدينة وكان يتعاطى التجارة، وعُرف بالبطولة والفروسية منذ الجاهلية، حيث شارك في حرب الأوس ضدّ قبائل الخزرج.

 أسلم أبو لبابة قبل الهجرة النبوية على يد مصعب بن عمير وكان في منتصف الثلاثينات، وشهد بيعة العقبة، وبعد حلول الرسول الأكرم بالمدينة، كان من بين الصحابة الذين عهد إليهم بالمهام الصعبة واستأمنه في أكثر من غزوة على النساء والأطفال وكان موضع ثقته.

شارك الصحابي في حياة الرسول في عدد من الغزوات، من بينها غزوة تبوك وفتح مكة أين كان حاملا لواء قومه، كما خرج لاحقا في حروب الردّة، وصاحب كلّا من القائدين خالد ابن الوليد وأبو عبيدة ابن الجراح في فتوحاتهما في الشام وفلسطين والعراق ومصر.

قصة الذنب

أجمع أغلب المؤرّخين المسلمين أن الآية 27 من سورة الأنفال “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ” نزلت في ذنب ارتكبه أبو لبابة خلال حصار النبي الأكرم ليهود بني قريضة بعد نقضهم لعهودهم.

 سأل بنو قريضة الصلح وإنهاء الحصار لكن جواب النبي كان حاسما، وهو أن يطبّق عليهم حكم الصحابي سعد بن معاذ بالقتل دون أن يعلموا بمضمون الحكم.

فطلبوا أن يبعث إليهم بأبي لبابة حتى يطلبوا منه النصيحة باعتبار أنّ قومه الأوس كانت تربطهم مصالح مشتركة مع يهود بني قريضة، فبعثه رسول الله صلّی الله عليه وسلم فسألوه: ما ترى يا أبا لبابة؟ أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى رقبته علامة على القتل.

ويروي الصحابي أبو لبابة بلسانه قائلا: “فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله”، وعندما نزلت فيه الآية شد نفسه بوثاق إلى سارية من سواري مسجد النبي، وقال: “والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليَّ”.

علم رسول الله بالأمر، وقال: “أما أنه لو جاءني لاستغفرت له وما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه”.

 مكث الصحابي الجليل سبعة أيام موثوقا إلى سارية المسجد لا تُحلّ وثاقه إلا لأداء الصلاة، حتى خرّ مغشيا عليه، وفي الليلة السادسة أخبر الرسول أصحابه أنّ الله قد تاب على أبي لبابة فأسرعوا لتبشيره بذلك لكنّه رفض أن يطلقه أحد غير النبي قائلا: “لا والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلّی الله عليه الذي يحلّني، فجاءه النبي عند صلاة الصبح فحلّه بيده.

خاطب أبو لبابة الرسول: “إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي”، فأجابه النبي صلّی الله عليه وسلم “يجزيك الثلث أن تتصدّق به”.

الهجرة إلى إفريقية

قدم الصحابي الجليل أبو لبابة الأنصاري إلى افريقية زمن الفتوحات الأولى في عهد عثمان بن عفّان، قبل أن توافيه المنية في عهد الإمام علي ابن ابي طالب عن سن تناهز الـ80 سنة في مكان يسمّى “وادي الغيران” بجهة مارث، ونقل جثمانه الى ربوة أبي لبابة في مدينة قابس حيث يوجد مقامه الحالي.